في العشرين من أيلول/سبتمبر الماضي، أكملت بعثة صندوق النقد الدولي زيارتها إلى السودان، وفي الرابع والعشرين منه أعلنت الخرطوم بدء تطبيق حزمة إجراءات اقتصادية أبرز ملامحها رفع الدعم عن المحروقات، وتعديل سعر الصرف الرسمي للدولار الجمركي. وفي الرابع من الشهر الجاري أعلن مجلس مديري الصندوق في تقييم له عن الوضع الأقتصادي أنه «يرحب» بالإجراءات التي اتخذها السودان. والغريب أنه رغم هذا الترحيب، إلا أن الإجراءات الاقتصادية الصارمة التي اتخذها السودان لم تأت في إطار اتفاق مع الصندوق كما هي العادة، وذلك لأن السودان يُعدُّ من أكبر المدينين للصندوق أصلاً، مما أدّى إلى وقف التعامل الإقراضي معه. وكل ما يحصل عليه في الوقت الحالي هو بعض العون الفني والزيارات المتتالية لوفود الصندوق، لتقييم الوضع الاقتصادي وتقديم بعض النصائح.
بانتظار إعفاء من الديون؟
تقدّر ديون السودان الخارجية هذا العام بنحو 45.6 مليار دولار، معظمها موروث منذ عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري، والجزء الأكبر منها عبارة عن فوائد متراكمة. ومن النصائح التي قدّمها الصندوق أن يسعى السودان إلى طلب إعفاء هذه الديون حتى يمكنه ولوج سوق المال مقترضاً مرة أخرى، والحصول على القروض بفوائد مناسبة. لكن عقبات سياسية تقف أمام إعفاء الديون، تتمثل في علاقات الخرطوم المتوترة مع العواصم الغربية، وخاصة واشنطن. وهكذا تجد الحكومة السودانية نفسها عاجزة عن استثمار خطوة رفع الدعم والقيام بإجراءات اقتصادية قاسية تتردّد الكثير من الدول في القيام بها، كما أنها لا تستفيد من خطوتها هذه بسبب سيفي العقوبات والديون المسلطيَن عليها. وترى الحكومة السودانية أن الإجراءات الأخيرة قد تسهم في الدفع بقضية إعفاء الديون، خاصة أن الاتفاقيات المبرمة مع جنوب السودان تتضمّن بنداً ينص على قيام الدولتين بجهد مشترك يتوج بتحمل جنوب السودان لجزء من هذه الديون، وذلك ابتداء من العام المقبل
إذا لم ينجح السودان في حل هذه المشكلة قبل ذلك.
ونتيجة للقرارات الجديدة، ارتفع سعر غالون الغازولين المستخدم بصورة رئيسية في وسائل النقل الكبيرة والقطاع الزراعي، من ثمانية جنيهات سودانية (1.8 دولار أميركي) إلى 14 جنيهاً (3.18 دولارات)، وغالون البنزين، الذي يستعمله أصحاب المركبات الخاصة من 12 جنيهاً (2.70 دولار) إلى 21 جنيهاً (4.70 دولارات) وأسطوانة الغاز التي تستخدم في المطبخ من 14 جنيهاً (3.20 دولارات) إلى 25 جنيهاً (5.60 دولارات). واذا كانت هذه الرسوم هي التي استقطبت النظر والاهتمام فإن الإجراءات شملت جوانب أخرى مثل رفع سعر الدولار الجمركي، الذي تُحسب على أساسه الواردات بنسبة الثلث، وكذلك ضريبة القيمة المضافة 13 في المئة، ورسوم تنمية 13 في المئة، ورسوم إنتاج 10 في المئة وغيرها... يتوقع لهذه المعدلات أن تسهم في رفع متوسط الأسعار بنحو 50 في المئة بداية، في مرحلة الصدمة الأولى، ثم ترتفع فيما بعد بفعل الآثار التراكمية الى 60 في المئة على أقل تقدير.
تلخص رد الفعل الأولي في مظاهرات تلقائية بدأت في مدينة «مدني» وسط السودان وانتشرت إلى مناطق أخرى، وصحبتها أعمال تخريب قابلتها السلطات السودانية بعنف هائل أدى الى مقتل ما بين 60 و70 شخصاً وفق الإحصائيات الحكومية، وأكثر من 200 شخص وفق أرقام لمنظمات حقوقية محلية ودولية.
ليست المرة الأولى
ومع أن السودان قام بخطوات محدودة لرفع الدعم في منتصف العام الماضي، شملت أيضاً تقليصاً له في مجال المحروقات وخفضاً للإنفاق الحكومي، الا أن الأداء الاقتصادي خلال العام الماضي والنصف الأول من هذا العام ـ وهما يشكلان محكاً للبرنامج الاقتصادي لثلاث سنوات ـ لم يكن جيداً، الأمر الذي دفع الحكومة إلى القيام بإجراءات أكثر راديكالية هذه المرة. وهو ما يعني اعترافاً متأخراً من قبل الدولة بالآثار الضخمة للصدمة الاقتصادية التي أحدثها انفصال الجنوب قبل عامين. فالفارق بين السعر الرسمي للدولار وسعره في السوق الحرة ظل في حدود 20 في المئة، رغم الإجراءات التي اتُبعت وعمليات ضخ سيولة أجنبية في الصرّافات، كما أن العجز في الميزان الخارجي، الذي وصل الى 6 مليارات دولار، يعتبر الأكبر في تاريخ السودان، وهو ما تنبغي مواجهته وإلا أدى الى انهيار اقتصادي شامل.
أشارت الكثير من الدراسات والتوقعات الى الصدمة المتوقعة، لأن الانفصال سحب معه نحو 75 في المئة من الاحتياطيات النفطية التي كانت معروفة في السودان. وخلال العقد الماضي، شكلت الإيرادات النفطية أكثر من نصف إيرادات الدولة، إلا أن الحكومة عملت وقتها على التقليل من أهمية تبعات الانفصال السياسية والاقتصادية مشيرة، إلى أن عائداتها من التعدين في الذهب، حتى في مرحلته الأولى، قادرة على تغطية الجزء الأكبر من عائدات العملة الصعبة التي كان يوفرها النفط. وهو ما كان يمثل رسالة وجهداً للتقليل من تحميل نظام الإنقاذ تبعات انفصال الجنوب.
الشيء نفسه حدث في العام 2008 مع الأزمة الاقتصادية العالمية، التي قال النظام أنه لم يتأثر بها لقيامه بأسلمة نظامه المصرفي. لكن تلك التصريحات التي قُصد منها الكسب السياسي أوقعت مسؤولي المصرف المركزي في حرج، إذ تكثفت الضغوط عليهم للوفاء بالتزامات السودان، سواء فيما يتعلق بتسديد بعض مستحقات القروض أو التحويلات الخارجية... ما دامت البلاد لم تتأثر بالأزمة المالية العالمية!
هذه المرة، ركز الخط السياسي الرسمي الدافع باتجاه رفع الدعم على فكرة انه يساوي بين الأغنياء والفقراء. بل ذهب الرئيس عمر البشير إلى القول إن السفير الأميركي يشتري غالوناً البنزين لعربته بالسعر نفسه الذي يشتريه به أي مواطن عادي. ومع أنه لا توجد معلومات مؤكدة، الا أن هناك مؤشرات تقول إن 50 في المئة من حجم الدعم المقدم يذهب الى أغنى 20 في المئة من الأسر السودانية، بينما يذهب 24 في المئة من هذا الدعم الى أفقر 20 في المئة من الأسر. لكن، ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، فإن دعم المحروقات مثَّل 15 في المئة من جملة الإنفاق الحكومي في العام الماضي، كما أن هذا الدعم أصبح حافزاً لتهريب بعض السلع، وخاصة المحروقات، الى دول الجوار مثل تشاد الى الغرب وأرتريا الى الشرق.
على ان اقتصاديين كثيرين يرون أن المشكلة الحقيقية تتمثل في ضعف العملة الوطنية (الجنيه) الناتج عن ضعف الإنتاجية والتصدير. ومع استمرار ضعف الجنيه وتدهور قيمته مقابل العملات الأخرى، ستظل الحكومة تطارد سراباً بهدف الوصول الى سعر مقنع وثابت في السوق، وهو ما يعكس في نهاية الأمر حقيقة ان أساس وجذر الأزمة الاقتصادية في السودان يعودان الى اعتماد سياسات غير متوازنة، والتركيز على الاستهلاك أكثر من الإنتاج والتصدير وتنويع مصادر النمو الاقتصادي. وكمثال على ذلك، فإن الدولة اعتمدت استراتيجية للنهضة الزراعية في الفترة بين العامين 2008-2011 بكلفة 4 مليارات دولار، وهي الفترة ذاتها التي ارتفعت فيها أسعار النفط بسبب الطلب القوي من الدول الآسيوية وعلى رأسها الصين. وفي الوقت الذي كانت عائدات البترول تقدر على أساس 50 دولاراً للبرميل، تجاوز العائد الفعلي هذا المعدل في بعض الأحيان، لكن لم يستخدم الفائض في الزراعة أو في أي مشاريع إنتاجية أخرى، بل أعيد تدويره للاستخدام السياسي والاستيرادي. وأبرز مثال على هذا أن القطاع الزراعي بشقيه المطري والمروي، الذي حقق معدل نمو سنوي في حدود 10 في المئة في فترة السنوات العشر التي سبقت تصدير النفط، تراجعت معدلات نموه في عقد الحقبة النفطية (حتى انفصال الجنوب العام 2011) الى 2 في المئة فقط في المتوسط السنوي.
عقد الطفرة النفطية
تقدر مختلف المصادر أنه خلال فترة الطفرة النفطية في السودان بين عامي 1999 وانفصال الجنوب في 2011 ، حصل السودان على مبلغ يقارب 60 مليار دولار لم تذهب كلها الى خزينة الدولة. بل أن جزءاً رئيسياً منها ذهب الى الشركات الأجنبية العاملة في الصناعة النفطية لمقابلة التكلفة التي تحملتها في إنتاج النفط وتحقيق بعض الأرباح. ولهذا يقدَّر أن ما عاد على السودان هو مبلغ يتراوح بين 30 الى 35 مليار دولار، كان نصيب الجنوب منه 12 ملياراً.
على ان الحقبة النفطية تأثرت أيضاً بما يجري على الجبهة السياسية، وعدم استقرارها، بدليل أنه في مختلف المراحل من الاستكشاف الى الإنتاج والتصدير، كانت الصناعة النفطية هدفاً عسكرياً لمجموعات سياسية مناوئة لنظام الحكم القائم. ومن هنا، كان سعي نظام الرئيس البشير الى ضمّ أكبر مجموعة من القوى السياسية الى ما يُدعى «حكومة القاعدة العريضة» وصلت الى 14 حزباً في الوقت الحالي، وذلك بهدف توفير ركيزة سياسية تمكِّنه من مواجهة خصومه الآخرين. وكان لهذا ثمنه أيضاً المدفوع من العائدات النفطية.
في تقييمه للأوضاع في ما تبقى من العام، لا يُخفي صندوق النقد الدولي تشاؤمه، إذ يصف الأجواء بأنها «غير إيجابية». فالنمو في القطاع غير النفطي يظل بطيئاً وفي حدود 2.3 في المئة، أي أقل من المستهدف وهو 3 في المئة، هذا مع استمرار تدهور قيمة الجنيه واحتمال انبعاث التضخم مجدداً بعد تراجعه الى 23 في المئة منتصف هذا العام من مستوى 44.4 في المئة بنهاية العام الماضي. وكل ذلك في الوقت الذي يتهيّأ فيه السودان الى الدخول في مرحلة صعبة سياسياً واقتصادياً خلال العامين المقبلين والاستعداد لانتخابات 2015 البرلمانية والرئاسية، التي أعلن البشير أنه لن يخوضها.
وبالرغم من الصورة الكالحة للوضع الاقتصادي، الا أن هناك بعض النقاط المضيئة مثل الاتفاق مع جنوب السودان على استمرار تدفق نفطه عبر خطوط الأنابيب في السودان، مما يوفر للأخير عائدات الى جانب توفير الإمكانيات، وتحسّن الأجواء السياسية بينهما لقيام جوبا بتسديد مبلغ ثلاثة مليارات دولار تم الاتفاق عليها بين البلدين في إطار الترتيبات المالية الانتقالية لدعم السودان. وإلى جانب هذا، تمَّ فتح المعابر التجارية بين البلدين، ويقدّر لها أن تعود على السودان بملياري دولار في المتوسط. بالإضافة الى أن السودان لا يزال يحظى ببعض الاحتياطيات النفطية التي يقدرها الكتاب الإحصائي السنوي لشركة بريتش بتروليوم بمليار ونصف المليار برميل، يسعى إلى استغلالها والاستفادة من خبرته وتوفر الكادر البشري في هذا المجال، إضافة الى النشاط المتوسع في مجال التنقيب عن الذهب، وفوق هذا تكثيف النشاط الزراعي وتوسيعه كماً وكيفاً.
فترة ما بعد عيد الأضحى ستمثل اختباراً لكل من الحكومة ومعارضي سياساتها، إذ ستتم إعادة فتح المدارس والجامعات، كما أن الأبعاد الكلية للإجراءات الاقتصادية وتأثيراتها ستتضح بصورة جلية. فالأمر يتوقف على قدرة النظام على مد يده بصورة جدية لبقية القوى السياسية، وبدء التعامل السياسي مع الأزمة الاقتصادية في إطار مشاركة فاعلة، بمقابل قدرة القوى المعارِضة على ترتيب تحالفات سياسية تضمّ حتى الإصلاحيين من «حزب المؤتمر الوطني» الحاكم، وتطرح بدائل مقنعة تجد في الوضع الاقتصادي الشعلة التي تنير طريقها لتغيير النظام.
[يعاد نشره ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و”السفير العربي“.]